وجاء في مجمع الأنهر : «ولو قال الزوج بعد انقضاء العدَّة : كنت راجعتك فيها ؛ أي في العدة، فصدَّقته المرأة صحَّت الرجعة ؛ لأن النكاح يثبت بتصادقهما ، فالرجعة أولى ... ، وإن لم تصدقه فلا تصح الرجعة لأنه يدَّعي ولا بينة له ، ولا يملك الإنشاء في الحال وهي منكرة ، فالقول قول المنكر ، ولا يمين عليها على قول الإمام ؛ لأن الرجعة من الأشياء الستة التي لا يمين فيها عنده خلافاً لهما، فلو أقام بعد العِدَّة أنه قال في عدتها قد راجعتها، أو أنه قال قد جامعتها ، كانت رجعة، كما لو قال فيها كنت راجعتك أمس وإن كذبته»([5])
ثانياً : مذهب المالكية :
أما المالكية رحمهم الله فيقولون : إذا أقام الأول البيِّنة على صِدق مُدَّعاه من الرَّجعة , ولم يكن الثاني قد دخل بها , فروايتان عن مالك :
الأولى : أن الأول أحق بها , والثانية : أن الثاني أحق بها .
أما إذا كان الثاني قد دخل بها , فلا سبيل للأول عليها , لكن خالف في ذلك أبو بكر الأبهري؛ لأن الله جعل الأول مالكاً لرجعتها وهو قد ارتجعها ([6]).
يقول ابن عبد البر رحمه الله : «وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها زوجها ثم أقام الأول البينة على رجعتها ؛ فعن مالك في ذلك روايتان ؛ إحداهما : أن الأول أحق بها , والأخرى : أن الثاني أحق بها . فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها» ([7]).
غير أنه ذكر في الاستذكار رواية لسحنون عن ابن القاسم : أن مالكاً رحمه الله رجع قبل موته بعام فقال : الأول أحق بها ما لم يدخل الثاني ([8]) .
وقال في مواهب الجليل : «ومن كتب إلى زوجته بطلاقها ، ووصل ذلك إليها ، وارتجعها ، ولم يصل إليها ارتجاعه إياها حتى انقضت عدتها ، وتزوجت ، فلا سبيل له إليها . قال أبو بكر : ولست آخذ به ؛ لأن الله جعله مالكاً لرجعتها ، وقد ارتجعها» ([9]).
ثالثاً : مذهب الشافعية :
ذهب الشافعية رحمهم الله تعالى إلى أن الزوج إذا أقام البينة على صِدْق دَعواه , نُزعت الزوجة من الثاني وسُلمت له , سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل , لكن يثبت لها مهر المثل إن كان دخل بها, ولا تحل للأول حتى تنقضي عدتها من الثاني , وإن لم يكن دخل بها فلا شيء لها .
أما إذا لم تكن له بيِّنة فإن له الدعوى بالرجعة عليها , وكذا على الزوج الثاني - على المعتمد من المذهب - , فإن بدأ بها في الدعوى فأنكرت فله تحليفها ، فإن حلفت سقطت دعواه , وإن أقرَّت له لم يقبل إقرارها على الزوج الثاني ما دامت في عصمته ؛ وذلك لتعلق حقه بها , وهل يجب عليها في هذه الحالة مهر المثل للأول؟ وجهان حكاهما ابن الصباغ كما ذكر الإمام النووي :
أحدهما: لا يلزمها له شيء ؛ لأن إقرارها لم يقبل بحق الثاني، فلم يلزمها غرم ؛ كما لو ارتدت أو قتلت نفسها .
والثاني : أنه يلزمها للأول المهر ؛ لأنها أحالت بينه وبين بضعها وذلك بإذنها في نكاح الآخر أو تمكينه , فإن زال حق الثاني بنحو موت أو فسخ أو طلاق , رجعت إلى الأول بغير عقد , ويُرد عليها ما أُخذ منها.
وإن بدأ بالزوج في الدعوى فأنكر الزوج دعواه , فالقول قوله (الزوج الثاني) بيمينه ؛ لأن العدة قد انقضت , والنكاح وقع صحيحاً في الظاهر ، والأصل عدم الرجعة .
وإن أقر الزوج له , أو نكل عن اليمين , وحلف الزوج الأول اليمين المردودة عليه , بطل النكاح الثاني, لكنه مع ذلك لا يستحق الزوجة ولا تسلم إليه إلا بإقرارها له, أو حلفه بعد نكولها, وحينئذِ يكون لها على الثاني مهر المثل بما استحل من فرجها . ([10])
يقول الخطيب الشربيني رحمه الله : (أما إذا نكحت غيره وادَّعى مطلقها تقدم الرجعة على انقضاء العدة ، فله الدعوى بها عليها . وهل له الدعوى على الزوج لأنها في حياله وفراشه أو لا ؟ لما مر فيما إذا زوجها وليَّان من اثنين فادعى أحد الزوجين على الآخر سبق نكاحه ، فإن دعواه لا تسمع عليه الأوجه الأول ، كما جرى عليه ابن المقري . وأجيب عن القياس بأنهما هنا متفقان على أنها كانت زوجة للأول بخلافهما ثَمَّ ، وعلى هذا تارة يبدأ بالدعوى عليها وتارة عليه ، فإن أقام بيِّنة بمُدَّعاه انتزعها سواء بدأ بها أم به ، وإن لم يكن معه بينة وبدأ بها في الدعوى فأنكرت ، فله تحليفها ، فإن حلفت سقطت دعواه ، وإن أقرَّت له لم يقبل إقرارها على الثاني ما دامت في عصمته ؛ لتعلق حقه بها ، فإن زال حقه بنحو موت سُلِّمت للأول ، وقبل زوال حق الثاني يجب عليها للأول مهر مثلها للحيلولة ، بخلاف ما لو كانت في حيال رجل فادعى زوجيتها آخر فأقرت له به وقالت كنت طلقتني فإنه يقبل إقرارها له ، وتنزع له إن حلف أنه لم يطلقها . والفرق اتفاق الزوجين في الأولى على الطلاق والأصل عدم الرجعة بخلاف الثانية , نعم إن أقرت أولاً بالنكاح للثاني , أو أذنت فيه لم تنزع منه ، كما لو نكحت رجلاً بإذنها ثم أقرت برضاع محرم بينهما لا يقبل إقرارها.
وإن بدأ بالزوج في الدعوى فأنكر ، صُدِّق بيمينه ؛ لأن العدة قد انقضت والنكاح وقع صحيحاً في الظاهر والأصل عدم الرجعة , وإن أقرَّ له أو نكل عن اليمين وحلف الأول اليمين المردودة ، بطل نكاح الثاني ولا يستحقها الأول حينئذ إلا بإقرارها له أو حلفه بعد نكولها ، ولها على الثاني بالوطء مهر المثل إن استحقها الأول ، وإلا فالمسمى إن كان بعد الدخول ، ونصفه إن كان قبله » ([11]).
وجاء في حاشية الجمل : «فله الدَّعوى عليها وعلى الزوج على المعتمد ؛ لاتفاقهما على زوجية الأول ، فإن ادَّعى على الزوج فأنكر ، صُدِّق بيمينه لصحة العقد ظاهراً بعد انقضاء العدة وعدم الرجعة ، فإن أقرَّ أو نكل فحلف المدعي بطل نكاح الزوج ، ولها عليه مهر المثل إن استحقها المدعي ، وإلا فالمسمى أو نصف أحدهما ، ولا ترجع زوجة له إلا بإقرار جديد منها أو حلفه بعد نكولها . وإن ادعى عليها فإن حلفت سقطت دعواه ، وإن أقرَّت له أو نكلت فحلف غرمت له مهر المثل ؛ لحيلولتها بينه وبين حقه بإذنها في نكاح الآخر أو تمكينه ، ولا حدَّ عليه ؛ لأن إقرارها لا يسري عليه ، فإذا مات أو طلق رجعت للأول ، ويرد عليها ما أخذ . ولو أقام المدعي بينة برجعته قبل الانقضاء نزعت من الثاني وسلمت له ، ولها على الثاني مهر مثل إن وطئ ، وإلا فلا شيء . قوله (للحيلولة) أي فإذا مات الثاني عنها أو طلقها رجعت للأول بلا عقد واستردت منه ما غرمته له » ([12]).
رابعاً : مذهب الحنابلة :
يرى الحنابلة رحمهم الله تعالى في هذه الصورة أن الزوج الأول إذا أقام البيِّنة على الرجعة فإن الزوجة تُسلّم إليه سواء دخل بها الثاني أم لا ؛ لأن رجعته صحيحة , ونكاح الثاني غير صحيح ؛ لأنه تزوج امرأة غيره كما لو لم يكن طلقها , لكن لا يطؤها المرتجع وهو الزوج الأول حتى تنقضي عدتها من الثاني ؛ لأنها معتدَّة من غيره , ولها على الثاني المهر بما استحل من فرجها إن كان دخل بها وإلا فلا شيء عليه .
وحكى المرداوي رحمه الله تعالى رواية أخرى في المذهب فقال : «وعنه : أنها زوجة الثاني إن كان أصابها ، نقلها الخرقي» ([13]) .
لكن المعتمد في المذهب هو الرواية الأولى , كما قال الزركشي (الحنبلي)رحمه الله , ونقلها عنه المرداوي في الإنصاف فقال : «قال الزركشي : هذا المذهب بلا ريب» ([14]).
أما إذا لم تكن له بيِّنة برجعتها , فلا تقبل دعواه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ »([15]) , ولأن الأصل عدم الرجعة .
فإن لم تكن له بينة لكنها صدَّقته هي وزوجها الثاني , رُدَّت إليه ؛ أي للأول ؛ لأن تصديقهما أبلغ من إقامة البينة , وإن صدَّقه الزوج الثاني فقط انفسخ نكاحه ؛ لاعترافه بفساده , ومع ذلك لا تُسلم الزوجة إلى الأول ؛ لأن قول الثاني لا يقبل عليها وإنما يقبل في حقه ، والقول قولها بغير يمين كما صححه ابن قدامة رحمه الله .
ثم إن كان تصديق الثاني للأول في رجعتها قبل دخوله بها، فلها عليه نصف المهر ؛ لأن الفرقة جاءت من قِبَلِهِ بتصديقه ، و إن كان تصديقه بعد الدخول فلها جميع المهر؛ لأنه استقر بالدخول .
وإن صدقته الزوجة وحدها في دعوى رجعتها , لم يقبل قولها في فسخ نكاح الثاني ؛ للحديث السابق , ولا يُستحلف الثاني كما هو اختيار القاضي أبي يعلى ؛ لأنه دعوى في النكاح , واختار الخرقي رحمه الله أن يحلف على نفي العلم .
فإن بانت من الثاني بطلاق أو غيره كالفسخ لعُنَّة أو إعسار , رُدت إلى الأول بغير عقد جديد؛ لأن المنع من ردِّها إنما كان لحق الثاني .
ولا يلزمها مهر للأول بحال وإن صدقته , وقيل : يلزمها المهر له وهو اختيار القاضي أبي يعلى كما ذكر ابن قدامة رحمه الله ؛ لأنها أحالت بينه وبين بضعها بغير حق ([16]).
يقول البهوتي رحمه الله تعالى : « وإن ارتجعها المطلق وأشهد على المراجعة من حيث لا تعلم فاعتدت ثم تزوجت من أصابها ، رُدَّت إليه ؛ أي إلى الذي كان راجعها بعد إقامة البينة ؛ لأن رجعته صحيحة ؛ لأنها لا تفتقر إلى رضاها فلم تفتقر إلى علمها كطلاقها, ونكاح الثاني غير صحيح ؛ لأنه تزوج امرأة غيره كما لو لم يكن طلقها , ولا يطؤها المرتجع حتى تنقضي عدتها من الثاني ؛ لأنها معتدة من غيره ، أشبه ما لو وطئت في أصل نكاحه ، ولها على الثاني المهر بما استحل من فرجها .
فإن لم يصبها فلا مهر عليه … ، فإن لم تكن له ؛ أي المطلق بيِّنة برجعتها , لم تقبل دعواه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (لو يعطى الناس بدعواهم) الحديث , ولأن الأصل عدم الرجعة .
وإن صدقته هي وزوجها الثاني ردت إليه ؛ أي الأول ؛ لأن تصديقهما أبلغ من إقامة البينة ، وإن صدقه الزوج الثاني فقط انفسخ نكاحه ؛ لاعترافه بفساده , ولم تُسلَّم إلى الأول ؛ لأن قول الثاني لا يقبل عليها ، وإنما يقبل في حقه ، والقول قولها بغير يمين ؛ صححه في المغني ؛ لأنها لو أقرَّت لم يقبل , فإن كان تصديقه ؛ أي الثاني للأول في رجعتها قبل دخوله بها ، فلها عليه نصف المهر ؛ لأن الفرقة جاءت من قِبَلِه بتصديقه ، و إن كان تصديقه بعده ؛ أي بعد الدخول بها ، فلها الجميع ؛ أي جميع المهر؛ لأنه استقر بالدخول . وإن صدقته ؛ أي الأول في دعوى رجعتها وحدها , لم يقبل قولها في فسخ نكاح الثاني ؛ للحديث السابق , ولا يُستحلف الثاني على ما اختاره القاضي؛ لأنه دعوى في النكاح , واختار الخرقي بلى فيحلف على نفي العلم .
فإن بانت منه ؛ أي من الثاني بطلاق أو غيره لفسخ لعُنَّة أو إعسار , رُدَّت إلى الأول بغير عقد جديد ؛ لأن المنع من رَدِّها إنما كان لحق الثاني ؛ كما لو شهد بحُرِّية عبد ثم اشتراه فإنه يعتق عليه , ولا يلزمها مهر للأول بحال وإن صدقته ؛ كما لو ارتدت أو أسلمت تحت كافر أو قتلت نفسها» ([17]).
خامساً : مذهب الظاهرية :
يرى الظاهرية رحمهم الله تعالى أن الزوج إذا طلق زوجته طلاقاً رجعيًّا, ثم أرجعها ولم يشهد على الرجعة , أو أشهد لكنه لم يعلم الزوجة بالرجعة - إذ الإعلام عنده واجب - حتى انقضت عدتها , فقد بانت منه ولا رجعة له عليها تزوجت أم لم تتزوج , دخل بها الزوج الثاني أم لم يدخل .
قال في المُحَلَّى : « وأما قولنا إنه إن راجع ولم يشهد أو أشهد ، ولم يعلمها حتى تنقضي عدتها، غائباً كان أو حاضراً ، وقد طلقها وأعلمها وأشهد ، فقد بانت منه ، ولا رجعة له عليها إلا برضاها ، بابتداء نكاح بولي وإشهاد وصداق مبتدأ ؛ سواء تزوجت أو لم تتزوج ، دخل بها الزوج الثاني أو لم يدخل . فإن أتاها الخبر وهى بعدُ في العدة فهي رجعة صحيحة . برهان ذلك قول الله تعالى : ﴿يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم﴾ وقال تعالى: ﴿ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن﴾ ، وهذا عين المضارة . وقال رسول الله ﷺ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ ) ؛ فمضارَّته مردودة باطلة »([18]) .
وبعد هذا العرض لمذاهب الأئمة وأقوال الفقهاء تجاه هذه المسألة , نخلص إلى ما يأتي :
أولاً : مذهب الحنفية : أن الزوج إذا أقام البينة على مُدَّعاه أو صدقته الزوجة , فهي زوجته وتُسلّم إليه , ويُفرّق بينها وبين الثاني , فإن لم تكن له بينة وكذبته فالقول قولها بغير يمين عند أبي حنيفة , وعند الصاحبين باليمين .
ثانياً : مذهب المالكية : أن الزوج إذا أقام البينة على مُدَّعاه , ولم يكن الثاني قد دخل بها فروايتان؛ الأولى : أنها للأول , والثانية : أنها للثاني .
أما إذا كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول عليها خلافاً لأبي بكر .
ثالثاً : مذهب الشافعية : أن الزوج إذا أقام البيِّنة على مُدَّعاه , نزعت الزوجة من الثاني وسُلِّمت إليه ، دخل بها الثاني أو لم يدخل , لكن إن كان دخل بها فلها مهر المثل وعليها العدة , وإن لم يكن دخل بها فلا شيء لها , فإن لم تكن له بينة فله الدعوى بالرجعة عليها أو عليه على المعتمد , وذلك على تفصيل مرَّ آنفاً .
رابعاً : مذهب الحنابلة : أن الزوج إذا أقام البينة على الرجعة سُلّمت الزوجة إليه ، سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل, لكن إن كان دخل بها فلها مهر المثل وعليها العدة , وإن لم يكن دخل بها فلا شيء , ونقل الخرقي رواية أخرى : أنها للثاني إن كان دخل بها , أما إذا لم تكن له بينة فلا تقبل دعواه .
خامساً : مذهب الظاهرية : أن الزوج إذا طلق طلاقاً رجعياً ولم يُعلم الزوجة حتى انتهت عدتها فقد بانت منه ولا رجعة له عليها ، تزوجت أم لم تتزوج , دخل بها الزوج الثاني أم لم يدخل .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وحدة البحث العلمي بإدارة الإفتاء
22/7/2009
__________________________________________________________